مجدي سمعان
احتفل النظام المصري بـذكرى تأسيسه الحادية والستون المواكبة للانقلاب
العسكري في يوليو 1952 الذي يروج له باعتباره "ثورة". وبالرغم من
التغيرات الهائلة التي شهدتها مصر والعالم منذ ذلك التاريخ إلا أن النظام المصري
لازال يستخدم نفس الأساليب الدعائية، التي نجحت في الخمسينيات في صناعة اسطورة عبد
الناصر، آملا في أن تصنع بطلا جديدا يحاول صنع اسطورته من حماية الشعب من
"الإرهاب"
جاء الاحتفال هذه المرة مختلفا عن العامين التاليين لثورة يناير 2011، فبعد
أن كان الاحتفال يتم على استحياء، بعد أن كان ينظر إلى أن ثورة يناير قامت لاسقاط
نظام يوليو، عادت الدعاية لتروج إلى أن 30 يونيو هي ثورة جديدة، وليست موجة جديدة
لثورة يناير، استجاب خلالها الجيش لمطالب الشعب كما فعل قبل واحد وستون عاما.
وأصبحت ثورة يناير هي حلقة وسطى ضائعة.
ما يحدث في مصر الآن هو محاولة لإعادة انتاج نظام يوليو باستخدام غطاء شعبي
ناتج عن تخويف المصريين من الحركات الإسلامية. وفي ظل ذلك يغفل الكثيرون دور الجيش
المصري وحلفاءه الأمريكيون في مساندة جماعة الإخوان المسلمين خلال المرحلة
الانتقالية الأولى للوصول إلى السلطة، وتحالف تلك القوتيين غير الديمقراطيتين خلال
المرحلة الانتقالية، التي تلت سقوط حكم حسني مبارك لتمرير سيناريو مرتبك أجهض تحول
سلسل نحو بناء نظام سياسي جديد. والآن يستخدم العسكر الإسلاميين كأداة لضرب مطالب
التحول الديمقراطي، من خلال اللعب على الاستقطاب السياسي بين القوى العلمانية
والإسلامية، وتصوير الجيش باعتباره المنقذ من ارهاب دولة الإخوان الدينية، والترويج
لوزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي باعتباره البطل الشعبي المنتظر.
إن الرؤية الجزئية لما يحدث في مصر تقود إلى استنتاجات خاطئة، ولكي نفهم ما
يحدث الآن علينا العودة إلى ما جرى قبل 61 عاما، حينما انقلب الجيش للمرة الأولى
على النظام الديمقراطي البرلماني في مصر ليؤسس نظام ديكتاتوري تابع للولايات
المتحدة، لازال مهيمنا على الحكم بشبكة النفوذ والمصالح التي بناها على مر العقود.
إن الغموض في علاقات القوى السياسية في مصر الآن يمكن قرائته إذا ما عرفنا
تاريخ الخداع الذي بني عليه النظام المصري منذ عام 1952.
كانت مصر في الفترة التي سبقت يوليو 1952 تموج ببوادر ثورة حقيقية لاصلاح
النظام وتأسيس ديمقراطية حقيقية، كانت مصر مؤهلة لأن تجني ثمارها. كانت هذه
الانتفاضة المرتقبة تأتي في وقت يستعد فيه الاحتلال البريطاني لمغادرة البلاد. كان
هناك قلق أمريكي من أن يؤدي الفراغ الناتج عن مغادرة الانجليز واحتمال قيام ثورة شعبية
تصلح عورات الديمقراطية البرلمانية القائمة، إلى خروج مصر من نير التبعية الغربية في منطقة ذات أهمية استراتيجية للنفوذ الغربي.
قررت الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية ملء الفراغ الناتج عن
جلاء دول الاستعمار القديم لإبقاء الهيمنة الغربية على العالم. بسبب صعوبة تكرار
نموذج الاستعمار التقليدي على الأرض ابتكر الساسة الأمريكيون أسلوبا جديدا للسيطرة
على تلك المستعمرات، وذلك من خلال احلال حكومات تابعة، غير ديمقراطية، فاقدة
للشعبية، يسهل ابتزازها بتحريض شعوبها ضدها باستخدام فزاعة الديمقراطية في حالة ما
لزم الأمر.
وفي سبيل ذلك تأسست وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA في عام 1947، ومنذ نشأتها خططت ونفذت عدد كبير من الانقلابات
العسكرية، بعضها كان معرفا وبعضها بقي طي الكتمان.
من بين الانقلابات التي بقت طي الكتمان ردحا من الزمن انقلاب يوليو 1952.
كان ابقاء العلاقات غير الشرعية بين ضباط يوليو والسي أي إيه أمرا ضروريا لنجاح الانقلاب.
كتب Athar Jamilفي موقع " Kcom":
"أرادت الولايات المتحدة انهاء النفوذ البريطاني في مصر، لكن احلال حكومة
عملية للولايات المتحدة بشكل صريح سيقابل بمشاعر مناهضة للامبريالية، كانت تسيطر
في ذلك الوقت على المزاج الشعبي"
مايلز كوبلاند، أحد عملاء الاستخبارات الأمريكية الذين ساهموا في صناعة
انقلاب يوليو 1952، كتب كتابا بعنوان "لعبة الأمم" روى فيه دور جهاز
الاستخبارات المركزي الأمريكي في صناعة انقلاب يوليو. طبقا لكوبلاند ففي فبراير
سنة 1952 تألفت لجنة اختصاصيين برئاسة موظف كبير في المخابرات المركزية الأمريكية،
هو كيرمت روزفلت، وضعت أول مشروع جدي من مشاريع "لعبة الأمم"، بهدف
الإعداد لثورة بيضاء في مصر.
خلال زيارات استكشافية متعددة لعملاء المخابرات الأمريكية لمصر، تم التعرف
على خلية نائمة للإخوان المسلمين داخل الجيش بواسطة، عميل المخابرات المركزية
الأمريكية مصطفى أمين، وتلميذه محمد حسنين هيكل. كان قائد المجموعة البكباشي جمال عبد
الناصر هو الشخص الذي تبحث عنه السي أي إيه، لتمتعه بالكاريزما التي تسهل صناعة
زعيم تابع، يسيطر على الشعب وتسيطر هي عليه، ومن خلاله يمكن تحقيق أهداف الولايات
المتحدة في المنطقة.
في مارس
1952 زار مصر كيرمت روزفيلت، مدير السي أي أيه لمنطقة الشرق الأدني، وعقد سلسلة من
اللقاءات مع جمال عبد الناصر انتهت بالاطاحة بالملك فاروق. بعد نقاشات مطولة بين
روزفلت وناصر ومجموعته اتفق الطرفان على الخطوط العريضة التي ستحكم العلاقة ما بين
الانقلابيين والولايات المتحدة الأمريكية، وهي تقريبا الخطوط العريضة للعلاقات
المصرية الأمريكية حتى الآن. طبقا لكوبلاند فقد تم الاتفاق على أن العلاقة
المستقبلية بين مصر والولايات المتحدة ستكون في العلن في شكل مواقف مثل
"إعادة تأسيس العملية الديمقراطية" و"لكن في الواقع سيكون هناك
فهما لأن الظروف المناسبة للحكومة الديمقراطية غير متوافرة". وتم الاتفاق على
أن يكون هناك عداء لفظي مصطنع من قبل حكومة الانقلاب للتغطية على العلاقة السرية
مع الولايات المتحدة، كما تم الاتفاق على على مسألة اسرائيل، "بالنسبة لناصر
فإن الحديث عن حرب مع اسرائيل ليس وقته المناسب، فقد كانت أولوية ناصر هي الاحتلال
البريطاني في قناة السويس."
وإذا كان ما يحدث اليوم هو محاولات إعادة نظام قامت ضده ثورة، فقد وظفت
الولايات المتحدة أدواتها في الخمسينيات لتحويل انقلاب يوليو إلى ثورة عن طريق
استخدام اساليب دعائية تنتحل المطالب الشعبية وتعد بتأسيس حياة ديمقراطية سليمة
وعدالة اجتماعية والقضاء على الاستعمار وأعوانه...ألخ، وأمدت قادة الانقلاب بخبراء
في الدعاية للتسويق للانقلاب وبناء شعبية عبد الناصر، والانتقام من خصومه، وفي
سبيل ذلك امدت النظام بأحدث اجهزة للبث الإذاعي لتأسيس إذاعة صوت العرب، التي
أصبحت أداة صناعة زعامة عبد الناصر عربيا، ووقفت إلى جوار أصدقائهم الجدد اثناء
العدوان الثلاثي. كما قامت الولايات المتحدة بتأسيس وتدريب جهاز المخابرات العامة
المصري، الذي أصبح، بالتعاون مع السي أي إيه، الجهة الرئيسية التي تدير العلاقات
ما بين البلدين، وهو ما دعا أحد المسئولين الأمريكين لوصف التعاون الاستخباراتي في
تصريح لجريدة الوول ستريت جورنال، على أنه "حجر الزاوية في العلاقات بين
البلدين"
إن ما سبق قد يفسر سبب عدم استجابة الولايات المتحدة للمطالب المتكررة منذ
عقود لقطع المعونة عن مصر، رغم تقديم أعضاء الكونجرس الأمريكي كل المبررات
السياسية والأخلاقية، التي تتماشي مع سياسة الولايات المتحدة المعلنة الخاصة
بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن العلاقة الحقيقية بين البلدين تديرها أجهزة سرية
لا يعنيها القيم الأخلاقية للشعب الأمريكي، ولا تلتفت لتطبع شعب يسعى لنيل حريته.
إن تتبع مسار الأحداث منذ يناير 2011 وحتى الآن يشير إلى أن هذه العلاقة
السرية بين العسكر والولايات المتحدة، التي بني على أساسها نظام يوليو، هي التي
تتحكم في مسار الأحداث في مصر حتى الآن، فإذا كان انقلاب يوليو هو مشروع أمريكي
لاجهاض ثورة شعبية محتملة، فما يحدث منذ يناير 2011 هو محاولة لإفشال ثورة شعبية
قائمة، فالولايات المتحدة تستخدم شبكة النفوذ التي بنتها داخل الدولة المصرية على
مر السنين، وخاصة داخل الجيش، الذي يتلقى تمويله وتدريبه من الحكومة الأمريكية،
للتأثير في القرار المصري وتوجيه، لضمان عدم حدوث تحول ديمقراطي سينعكس بالتأكيد
على استقلال القرار المصري، وخروج مصر من إطار التبعية للولايات المتحدة، وقد
التقت مصالح الولايات المتحدة في افساد التحول الديمقراطي مع مصالح قادة الجيش
والنخبة الحاكمة في مصر التي تدافع عن مصالح هائلة بنيت بالفساد واستغلال النفوذ
والاستيلاء على الأراضي، بما يمكن وصفه بالإقطاع العسكري. وقد استخدم النظام
العسكري تيار سياسي غير ديمقراطي لهذه الغاية عن طريق مساعدته على الوصول إلى
الحكم ثم استخدامه في خلق حالة من تضارب الشرعية المشوبة بالعنف مما يجعل الحديث
عن تحول ديمقراطي في المستقبل صعب المنال.
No comments:
Post a Comment