بقلم أمين
المهدي
الحياة
11-02-2000
من بين القراءات
النقدية التي لم ينجزها، بل ولم يجرؤ عليها، العقل العربي لمسار الصراع العربي -
الاسرائيلي، القراءة المقارنة النقدية بين الجانبين، بعد أن استكان المثقف الرسمي
العربي الى صخب شعارات الحق على الجانب العربي (وهو في غالبيته صحيح )، والى ميول
التشهير والفضائحية ولذة تحقير الآخرين في ما يتعلق بالطرف الاسرائيلي، قانعا عن
غنيمة الوعي وحب الفهم والاحترام الانساني للعقل والحقيقة، بالإياب إلى دفء
الايديولوجيات البربرية المعادية للحرية والتقدم، وتصريحات الناطق الرسمي العربي،
وحضن السلطات التي تمرست بتحويل الصراع الى قميص عثمان، والى حيلة من حيل
الاستمرار في السلطة ودعم الدولة المركزية الشرسة .وهكذا تحول العقل العربي
'السائد 'الى عقل لاحق للأحداث ويسكنه رد الفعل على الدوام، ولم يكن ما يمنع،
والحال كذلك، من ان تتحول حروب العرب الزائفة مع اسرائيل من اجل الحق الفلسطيني،
الى حرب حقيقة ضد الحرية والمعرفة والحداثة، وربما بسبب ذلك لم يدركوا اثر تلك
القيم في انتصار الصهيونية، وربما بسبب ذلك ايضا لم تتوقف هزائمهم على رغم بدء
المسيرة السلمية مع كل الاطراف .ذلك لأن من يحارب ضد الحرية والمعرفة والحداثة
ويتبع الفكر الفاشي، ويبحث عن هوية غير الحضارة المعاصرة، لا بد ان يفقد عقله
ويتفسخ مجتمعه ولا يؤتمن على وطن، ولا بد ان يخسر معركة السلام كما خسر معارك
الحرب من قبل .
غير ان ما
يعنينا هنا محاولة الولوج الى قراءة مقارنة نقدية منذ ان بدأ الصراع وحتى تصاعد
الى صدام عسكري شامل في العام 1948، الذي شهد اول هزائم العرب الكبرى، وليس آخرها
بالطبع .
اولا
:الصهيونية في الطريق الى بلاد العرب :
بدأ ذلك
التحدي منذ اللحظة التي تحولت فيها الصهيونية الى ايديولوجية تجميع لشعوب يهودية
مختلفة الثقافات، وترجمت ذلك الى 'مشروع 'له برنامج عمل وفلسفات متعددة، وكانت
بدايتها العملية من وضع ليون بنسكر تحت عنوان 'التحرير الذاتي AUTO EMANCIPATION 'في 1882، ثم كتاب
ماكس نورداو 'الامة اليهودية '.لكن البرنامج الاكثر دقة واستفادة من الظروف
الموضوعية كان لتيودور جاكوب هرتزل (1860 - 1904 )باللغة الالمانية من 23 الف كلمة
في 1896 تحت عنوان 'الدولة اليهودية DER
JUDENSTAAT '.والجدير بالاضافة ان الفكرة والاستيطان بدآ قبل ذلك بقليل من
دون خطة .
بمرور
الوقت اصبحت للمشروع مؤسسات حديثة على النمط الغربي، بدأت بشبه برلمان نيابي دوري
الانعقاد سنويا هو المؤتمر الصهيوني، وأول جلساته من 29 الى 31 اب (اغسطس )1897 في
كازينو في مدينة بازل السويسرية، وتشكل من الاحزاب والروابط والنقابات والجمعيات
الشعبية مثل 'المكابيين 'في بريطانيا، 'شوفيفي زيون 'و 'شبيبة الوطن 'في بولندا، و
'سنترال 'في رومانيا و 'عزرا (المعونة )'في برلين، و 'لياشوب أرتز اسرائيل (العودة
الى ارض اسرائيل )'في باريس .
تتالت بعد
ذلك المؤسسات التنفيذية مثل المنظمة الصهيونية ثم الوكالة اليهودية JEWISH AGENCY في سنة 1922،
الهستدروت (الاتحاد العام للعمال اليهود )في 1920، ومؤسسة اجتماعية وثقافية
(الجوينت )وتعليمية (الاتحاد الاسرائيلي العمومي - الاليانس ALLIANCE ISRAELITE UNIVERSELLE '.وصلت مدارسها في
1908 الى 142 تضم 41 الف طالب وطالبة، وانشئ التخنيون (معهد التكنولوجيا )في 1924،
والجامعة العبرية في 1925، ومعهد وايزمان في 1946، والبنوك مثل البنك اليهودي
الاستعماري (انكلو - بالستين )والبنك اليهودي الملي، وشركات مثل 'شركة الاستعمار
اليهودية - اختصارا سميت الايكاد '.وقامت المنظمة بجمع التبرعات من يهود العالم
وارسلتها الى فلسطين، وبلغت تبرعات يهود اميركا في 1930 الى 1948 مبلغ 396 مليون
دولار وهو مبلغ ضخم في تلك الفترة .
اعتمدت
التنمية الاقتصادية سياسة الإقراض والعمل التعاوني والجماعي في مستعمرات زراعية
وصناعية ومختلطة، وفي 1911 كان لهم 28 مستعمرة زراعية وصناعية مساحتها 279،490
دونم، وفي نهاية 1933 اصبحت المساحة 000،110،1 مليون دونم وكان عدد المستعمرات
الزراعية فيها 83 مستعمرة .
وفي وقت مبكر
بدأ دور المدينة ودعم الطبقة الوسطى وادركوا اهمية المؤسساتية والنشاط التجاري،
وفي 1933 كان عدد سكان المدن من اليهود 175 ألف نسمة وكان عدد سكان الريف 65 ألفا
والنسبة بين الريف والمدينة تقترب من الثلث، في حين كانت نسبة السكان العرب بين
الريف والمدينة تصل الى 1 :9 .
تأسست نواة
جيش الدفاع في 1907 بتشكل قوات الدفاع الذاتي عن المستوطنات باسم 'قوات بارغيورا
'بقيادة اسرائيل شوشات وديفيد غرين (بن غوريون ).وفي 1948 كان هذا الجيش 100 الف
بين العمليات والاحتياط، وله بناء هرمي وخبرات عسكرية من كل المدارس العالمية .فكان
اسحاق ساده رئيس اركان 'الهاغاناه 'من الجيش القيصري الروسي، ومستشار بن غوريون
العسكري الكولونيل ميكي من الجيش الاميركي، وايغال يادين مدير العمليات في
'الهاغاناه 'ومعه ايغال آلون قائد القوات الضاربة (البالماخ )من الجيش البريطاني،
وكانت الهاغاناة (المنظمة العسكرية الصهوينة )تأسست في 1920 .
كان لهم
طوابع بريد صهيونية ومحاكم في المستعمرات، وكانت احد منابع التمويل بالاضافة الى
الرمزية السيادية التي تعبر عنها .
وتم احياء
اللغة العبرية وتحديثها، وكان لهم 'مارش 'صهيوني (هاتكوه - الامل )وكان لهم علم .
وتمت اول
انتخابات لأول كنيست اثناء حرب 1948 وانعقد في آذار (مارس )1949 .وكان معنى ذلك ان
الصهيونية جلبت معها منذ البداية نظاما ديموقراطيا لصناعة النخبة في كل المجالات
وفي اطار قومي علماني صرف .
تبلورت
الاسس الاجتماعية للاستيطان في اطار فكر متحرر اوروبي النشأة تتمتع فيه المرأة
بمكانة جعلتها تشارك في كل مناحي الحياة من دون استثناء، على رغم الجمود الديني
اليهودي في النظر الى المرأة .
هكذا جاءت
الصهيونية الى بلاد العرب عبارة عن ايديولوجية خلاصية شعبية (وهنا تكمن دوافعها
وجوانبها الانسانية )ذات مظهر قومي واساس اسطوري جعل من التوراة سجلا عقاريا
وكتابا للأعراق (وهنا تكمن اسباب ممارستها العنصرية وصبغتها البربرية ).وهذا ما
صنع لها فصاميتها الخاصة مثل كل البربريات .وسلكت الصهيونية في التنفيذ مسلكا
علميا عقلانيا مؤسسيا وديموقراطيا، واستدلت الى اهمية احتلال العمل قبل احتلال الارض،
واهمية المزاوجة بين العمل ورأس المال، وقيمة العمل الجماعي، والتطوعي، وكان ذلك
من اهم اسباب قوتها وانتصارها .وتنبأت الصهيونية بانتصار الغرب والتطور الرأسمالي،
على رغم نشأتها الشرق اوروبية، فاختارت موقعها ضد القوميات وضد النازية والفاشية
والستالينية، وهكذا راهنت على معسكر المنتصرين وانتصرت معهم .
وجذرية هذا
التوجه تتضح في ارتباط الصهوينية بالغرب حتى في اوقات التناقض، وقبل ذلك في الموقف
من منظمات مثل 'شتيرن 'و 'الارغون 'ذات الميول اليمينية المتطرفة عندما حاولوا
التنسيق مع دول المحور طبقا لمذكرة ابراهام شتيرن في 1941 عن التعاون النازي -
الصهيوني، وارتكبوا اعمالا عدة ضد العرب والانكليز اثناء الحرب الثانية، فتم تسليم
شتيرن الى الانكليز كي يعدموه في 1942 .
وعندما حدث
التناقض بين الجانب 'الرسالي 'والدولة اختاروا جانب الدولة من دون تردد، وعندما
كان على بن غوريون ان يختار بين دعم 'البيشوف 'اي المستوطنين في فلسطين، وبين
الإنفاق على عمليات التهجير من اوروبا اختار دعم 'البيشوف '.
ثانيا
:فلسطين ...الموقف والفراغ والصراع :
بعد المرض
الطويل وفي المشاهد الختامية لآخر امبراطوروية عسكرية - دينية في التاريخ وهي
الامبراطورية العثمانية، كانت الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على ارض
فلسطين عينة مماثلة لاوضاع المشرق والمغرب العربيين، وهو ما تسبب في زيادة حساسية
المنطقة في مخططات القوى الاستعمارية لشغل الفراغ الناجم عن سقوط تلك
الامبراطورية، وساعد ذلك على نمو تطلعات من نوع استعماري آخر، وأعني به الاستيطان
العقائدي السلمي والمسلح لبعض القوى ذات النشأة الاوروبية، ولم يكن الاستيطان
الصهيوني اليهودي هو اول استيطان من هذا النوع الفلسطيني، بل سبقه استيطان مسيحي
صهيوني لاتباع كريستوف هوفهان، مؤسس جماعة الهيكل المسيحية الالمانية، وكانوا
يعتقدون انهم اصحاب الوعد الالهي بأرض الميعاد، وانهم شعب الله المختار الاصلي،
وشرعوا في الاستيطان في 1867، واقاموا سبع مستوطنات صناعية وسياحية حول القدس
وحيفا، غير انه لم يكن باستطاعتهم التنافس مع المشروع الصهيوني اليهودي الوافد
بدءا من 1881 .ولكن نهاية المستوطنات الالمانية لم تتم الا على يد البريطانيين في
1940 بترحليهم خارج فلسطين بحجة ولائهم للنازية .وهناك بعض المحاولات الاقل شأنا
مثل جماعة المورمون المسيحية الاميركية من اتباع غولد سميث، ولديهم اسطورة صهيونية
شبيهة، ولهم بعض المستوطنات المحددة حاليا .وكما قامت بريطانيا بشغل فراغ
العثمانيين، تطلع الصهاينة لشغل فراغ الامبراطورية البريطانية العجوز بعد الحرب
الثانية، وهذا التداول لشغل الفراغ يدل الى نوعية العقل السياسي والواقع الاجتماعي
العربي الذي لم يخرج عن كونه مفعولا به طوال الوقت .
تسببت حروب
الامبراطورية العثمانية ومرضها في زيادة الامتيازات الاوروبية في اراضيها والاراضي
العربية التابعة لها، وتسبب ذلك ايضا في زيادة الاعباء الضريبية طبقا لنظام
المقاطعجية والمتصرفيات على الاراضي الفلسطينية، وهو اقرب الى نظام الريع البدائي،
حتى انه كانت هناك ضرائب على كل شجرة زيتون وفواكه وكل نعجة، بالاضافة الى تخلف
البنية الاقتصادية والادارية اصلا .وكانت النتيجة المحتومة هي انهيار الاقتصاد
الزراعي والرعوي والتجاري، وتسبب ذلك في رواج تجارة الاراضي بمشاركة القناصل
الاجانب ووكلائهم والمقاولين والتجار اللبنانيين مثل مدور وبسترس وسرسق وكويني،
وتجار حيفا ويافا وعكا وافنديات ووجهاء المدن والبدو والمتصرفين الاتراك، بل وبعض
العائلات والزعماء الوطنيين .وغداة حرب 1948 كانت الصهيونية امتلكت ما بين 6 في
المئة و7 في المئة من اراضي فلسطين .وليست النسبة فقط هي المهمة، بل الاهم نوعية
الارض الممتازة، بالاضافة الى نوع الاقتصاد البالغ الكفاءة .كما كان توزيع
المستوطنات في هيئة حرف H
في خطة امن عسكرية دقيقة .
كانت
البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني في مطلع القرن العشرين بنية عشائرية، وكانت
الهضاب (الداخلية )محاصرة بالبدو، وكانت غالبية الوجاهات فيها من اصل بدوي، وكانت
العصبية القبلية القديمة من أسباب الفتن وكانت تأخذ شكلا طائفيا بسبب كون معظم
المسيحيين من اصول قيسية .
اما فلسطين
الساحل فكانت تحت سيطرة افنديات المدن وزعماء الاسر الدينية، وكانت الامتيازات
الاوروبية افرزت نتائجها في هيئة وكالات اجنبية ومصارف، في الوقت الذي اخذت
الاقليات الدينية في الاستقرار على الساحل نتيجة سيطرة الطائفية العشائرية في
الداخل .
ولم يكن
الحس السياسي العربي قادرا على صوغ موقف مدروس من التطورات العالمية بعد الحرب
الاولى، وكذلك من تطور الخطط الصهيونية، حتى ان كامل الحسيني رحب بالتعاون مع
حاييم وايزمان والصهيونية في آيار (مايو )1918 اثناء زيارة للاخير للقدس، واعترف
العرب (بتصريح )بلفور في اتفاق 3 كانون الثاني (يناير )1919 بين الامير فيصل
وحاييم وايزمان وإن كان ذلك في مقابل صفقة انشاء سورية الكبرى .
ولم تكن
البنى التقليدية للمجتمع الفلسطيني قادرة على إقامة مؤسسة شعبية تقود الصراع
.واستغرق العقل الديني الاسطوري القيادات الفلسطينية، واستغرقتها ايضا الفردية
والخصومات العشائرية، وبرز المفتي امين الحسيني محاولا الإنفراد بالقيادة وتصفية
حساباته مع خصومه العشائريين والبريطانيين والصهاينة .وزاد الطين بلة رهان الحسيني
على النازية وتأييده لانقلاب رشيد الكيلاني في العراق ذي النزعة النازية ايضا،
وهكذا اصبح الحسيني مطلوبا منذ 1938 وحتى ظهر في 4691 كلاجئ سياسي في كنف الملك
فاروق، وما بين 1938 و1945 لم تكن في فلسطين قيادة مسؤولة أو هيكل تنظيمي من أي
نوع، وكان كل ذلك يساهم في انعدام اللغة والقدرة على التواؤم، مع المتغيرات
العالمية والاقليمية المتسارعة في فترة من اكثر فترات القرن العشرين دراماتيكية .
عندما طرحت
بريطانيا فكرة مؤتمر لندن 1939 وحضرته ست دول عربية بينها فلسطين، ولم يسفر عن
اتفاق بين العرب والصهاينة، فأعلنت بريطانيا الكتاب الابيض (الثاني )أي كتاب
ماكدونالد (وزير المستعمرات )، وكانت الوفود العربية كلها ميالة لقبول الكتاب بعد
ان وافق عليه مجلس العموم بالاغلبية، لكن المفتي امين الحسيني رفضه وهو في الخارج،
فاضطرت الدول العربية الى رفضه، وكان افضل صيغ الحل طوال تاريخ الصراع .وكان قبول
الصهاينة لقرار التقسيم ورفض العرب به على رغم وقوف الشرعية الدولية وراءه، صفحة
مريرة اخرى (قبل الحرب كانت الاراضي تحت يد الصهاينة مساحتها 2000 ميل مربع وكان
قرار التقسيم يخصص 5600 ميل مربع لهم، ونتيجة الحرب حصلوا على 7500 ميل مربع ).
بعد مذبحة
دير ياسين التي قامت بها منظمتا ليمي والارغون زفاي في اول نيسان (ابريل )1948 قيل
إن عدد الضحايا 250 وان الصهاينة اغتصبوا النساء وشاع شعار 'العرض قبل الأرض '،
وكان عدد الضحايا الحقيقي 120 ضحية، ولم تحدث حالة اغتصاب واحدة، لكن العرب بالغوا
في الامر لاجتذاب تعاطف العرب الاخرين، وبالغ الصهاينة ايضا لبث الرعب في نفوس
الفلسطينيين كي يتركوا اراضيهم، وهو ما حدث في 23 نيسان (ابريل )1948 .استولت قوات
الهاغاناه على مدينة حيفا، وكان عدد العرب فيها يصل الى 70 الف نسمة، وطلب القائد
الانكليزي من الوفد العربي برئاسة فريد السعد عقد هدنة لتأمين السكان وحاول الوفد
مناقشة ذلك مع يونس نفاع قائد الحامية العربية لكنه رفض مناقشة 'امور عسكرية 'ورفض
الوفد عقد الهدنة، وطلب من القائد الانكليزي ترحيل السكان حتى انخفض العدد الى 8
آلاف، وكان الفلسطينيون قد سيطر عليهم وهم بثته وسائل الاعلام العربية ان الرحيل
موقت، وان العرب الرسميون سرعان ما سيحررون فلسطين، وفي ذلك قدم الجنرال اسماعيل
صفوت قائد جيش الانقاذ رئيس اللجنة العسكرية الذي عينته الجامعة العربية تقريرا في
23 آذار (مارس )1948 ورد فيه 'يجب عدم الاطمئنان الى ما تذيعه الجرائد العربية من
التهريج والبيانات المزوقة '.
ليس معنى
ما سبق ان عرب فلسطين والمتطوعين تخاذلوا عن تقديم التضحيات بل العكس، واحيانا على
نحو يتجاوز التصديق .ولكن لأن الازمة هي ازمة العقل العربي ومأزق حضاري في الوقت
نفسه فإن كل ذلك ذهب أدراج الرياح .
لم تترك
مدرسة الشرق المصرية، أي الجماعات الفاشية في مصر، تيار الخسائر يمر من دون
مشاركة، وهي القصر الملكي ومجموعة علي ماهر وجماعة 'الاخوان المسلمين 'والحزب
الوطني وجمعية 'مصر الفتاة 'والتنظيمات المنشقة من كل هؤلاء، مثل تنظيم 'الضباط
الاحرار 'و 'الحرس الحديدي 'بالاضافة الى الازهر ويمين حزب الوفد ...قامت جميعا
بحشد الشارع السياسي وراء الشعارات الفاشية الدينية والقومية مطبقة القاعدة غير
الذهبية :ان الفاشية تقتات على الصراخ بالحرب كي تتقدم الصفوف ثم تقع الهزائم
فتقتات ثانية بصراخ الانتقام والغرائز السياسية التي تصل الى الحكم .وهذا ما حدث
بدقة مذهلة ومؤسفة في آن .ونذكر واقعتين للتدليل، ففي 5 أيار (مايو )1948 اي قبل
عشرة ايام فقط من بدء الحرب، ارسل الجنرال اسماعيل صفوت الى جميل مردم بك رئيس
وزراء سورية آنذاك رسالة يقول فيها :'صبرت اكثر مما يجب ان اصبر وتحملت ما هو فوق
طاقتي، وأنذرت بحراجة الموقف، وطلبت بإلحاح الاسراع لمعالجته فلم أجب، فساءت صحتي،
واصبحت غير قادر على الاستمرار في العمل، وعليه اعتبر نفسي مستقيلا اعتبارا من هذا
اليوم '.وفي 12 ايار (مايو )1948 في القاهرة، أي قبل بدء الحرب بثلاثة ايام فقط
وفي اللجنة السرية المشكلة داخل مجلس الشيوخ، قال الفريق حيدر :'إن الجيش المصري
وحده قادر على دخول تل ابيب '.وكان الكثير من القوى السياسية والرأسمالية في مصر
ضد دخول الحرب، وتعمل على الاخذ بالحل السياسي، وكان منهم يسار حزب الوفد والطليعة
الوفدية والاحزاب الشيوعية والاحرار الدستوريون ومحمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء
واسماعيل صدقي باشا (كان يريد انقاذ المشروع الرأسمالي المصري الوليد )ومحمد حسين
هيكل باشا واحمد عبود باشا رجل الصناعة الاشهر .لكن صراخ الفاشية كان اكثر صخبا
وتهييجا للغرائز السياسية، وما اشبه الليلة بالبارحة .
ولم ينتج
عن هزيمة 1948 ما ينم عن استيعاب دروسها، فقد ازداد الموقف السياسي العربي تفككا
ومجافاة للعقلانية، وحاولت الحكومتان المصرية والسورية تأسيس حكومة عموم فلسطين
برئاسة احمد حلمي عبدالباقي، وتشكل مجلس تأسيسي برئاسة المفتي امين الحسيني !، في
تجاهل واضح للهزيمة ولقرارات المجتمع الدولي والرمزية السياسية السلبية للمفتي،
وهكذا عقد الاعيان المناوئون له مؤتمر اريحا وبايعوا الملك عبدالله 'ملكا على عموم
فلسطين 'وكان ذلك تعبيرا عن صراع عربي- عربي حول قميص عثمان الحديث .
ولم يسر
الامر على نحو افضل في الساحة العربية الاوسع، اذا ما لبث الفكر الفاشي القومي
والديني في التمهيد لسلسلة الانقلابات العسكرية العشائرية والريفية التي بدأت في
سورية ثم مصر، ثم سرعان ما انتشرت في بعض بلاد العالم العربي .وهكذا لم يكتف العقل
العربي 'الرسمي والسائد 'بعجزه عن بناء دولة في وطن كانت متاحة فعلا ولم يتفهم قوة
المشروع الصهيوني، ولم يوجه الاسئلة الحرجة عن اسباب التخلف المجتمعي العربي، بل
نكص الى الخلف في اتجاه اعتى النظم الشمولية واكثرها تخلفا وقسوة، واخذ يبدد ما
كان متاحا لديه من مؤسسات الدولة والمجتمع الاهلي والشارع السياسي، اهم منجزات
المصريين في القرن العشرين وفي التجربة الليبرالية المصرية، والتجربة الليبرالية
المحدودة في سورية والعراق، وقطع كل علاقة مع الحضارة المعاصرة ومع التقدم
.والنتائج معروفة، ويمكن تلمسها عبر المقارنة بين الواقع في اسرائيل والعالم
العربي .وها هم بعد ان سلكوا كل السبل لمنع اقامة دولة الشعب الفلسطيني المقهور
والمعذب يطالبون اسرائيل بإقامة تلك الدولة .
وعلى مساحة
اقل مما كان تحت سيطرتهم .ثم ها هي اسرائيل تعيد اراضي احتلتها على كل الجبهات،
لكن الانظمة العربية لم تعد الحريات ولم تسقط الاحكام الاسثنائية التي فرضتها من
اجل قتال اسرائيل، وهنا يتزايد الالتباس حول من كانت تقاتل تلك الانظمة؟ ولا نضيف
.
* كاتب
مصري .
المصدر
:الحياة
No comments:
Post a Comment