Thursday, November 22, 2012

الإخوان المسلمون وبناء نظام ديموقراطي






بقلم أمين المهدي 


 الحياة اللندنية
17-06-2005 

يقول الرئيس التشيكي السابق فاكلاف هافل في الفصل الأول من كتابه 'تأملات صيفية 'Summer Meditation إنه في مواجهة الأوضاع السيئة التي كان عليها المجتمع والدولة غداة سقوط الحكم الشمولي لجأ إلى :'....استثمار الحد الأدني المتاح من الميول الإيجابية لدى كل شخص لتلافي الفوضى ...'، وتكمن أهمية أفكاره في أن بلاده بعد 13 سنة أصبحت دولة 'متخرجة 'طبقا لمعايير البنك الدولي ,أي أنها انطلقت في النمو من دون حاجة إلى مساعدة .

دفعني للخوض في هذا الموضوع بعض التغييرات النوعية التي طرأت على ممارسات جماعات الإسلام السياسي في مصر وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين ,أولها مشاركتهم في التظاهر السلمي مع القوى الديموقراطية والعلمانية مع تصريحات متعددة عن الالتزام بالعمل السياسي السلمي وقبولهم بالتعددية الديموقراطية وتداول السلطة .وثانيها تجارب تأسيس أحزاب مدنية ذات مرجعية إسلامية كحزب الوسط وحزب الإصلاح والعدالة والتنمية ومحاولات غير مكتملة لتقديم دستور مدني 'إسلامي 'أبرزها محاولة أحمد كمال أبو المجد .وثالثها المراجعات التي قامت بها فصائل راديكالية انتهت إلى مبادرة 'نبذ العنف '.

في مقابل ذلك كشفت المرحلة الانتقالية الحالية في مصر عن أبعاد حرجة في الانسداد السياسي نتيجة ابتلاع السلطة التنفيذية لكل السلطات من دون استثناء مع افتقارها الكامل للفكر والعمل السياسي فضلا عن أي برنامج سياسي والاعتماد بالضرورة على الهيكل البيروقراطي وعناصر الدعاية والأمن والمؤسسة الدينية ,وليس حزب السلطة في هذا السياق سوى جماعات معزولة يحركها الطموح إلى النفوذ والثروة عبر البيروقراطية ولا تنتمي لأوعية اجتماعية محددة ,وتحضرني هنا واقعة تكفي للتدليل على ما أعنيه ,وهي عندما أعلن الرئيس السادات تخليه عن حزب السلطة المسمى حزب مصر وأعلن عن تشكيل الحزب الوطني الحالي ,في ليلة واحدة هرول الجميع إلى الحزب الجديد وتركوا الحزب السابق صفصفا ,بعدها أصبح مجرد لافتة على شقة مغلقة في شارع شمبيلون .وعلى رغم كل محاولات الحشد والتعبئة للجهاز البيروقراطي تحضيرا للاستفتاء على ما سمي تعديل المادة 76 ,كشف يوم الاستفتاء بجلاء عن عصيان وطني لا يصدق يعيشه المصريون منذ ثلاثة عقود تقريبا ,وكان من باب تحصيل الحاصل دعوة أحزاب المعارضة وجماعة الأخوان إلي الامتناع عن التصويت .وفي مواجهة تظاهرات المعارضة يومها تدهورت معالجة الدولة إلى مستويات سادية من العنف البدني واللفظي المبرمج لا يمكن أن تكون من فعل أفراد ,وعبرت عن غرائز سياسية نتيجة غياب العقل السياسي وغياب الحد الأدنى من الحوار وإرادة الإصلاح بالتالي .

طوال ما يزيد على نصف قرن يكشف الجدل بين جماعة الأخوان وجمهورية تموز (يوليو )العسكرية عن معاملات عدة من أهمها إحداث فرز دائم بين قيادات الجماعة لمصلحة عناصر التطرف من الشيوخ وأعضاء النظام الخاص ضد عناصر الاعتدال والفكر والعمل السياسي بغرض صناعة أداة دائمة لاجهاض الحريات المدنية وصناعة إلهام مذهبي يغطي الافتقار إلى الشرعية ويهدف إلى تحويل المجتمع إلى معسكر تجميع يحتشد ضد خصوم الداخل والخارج ومن دون منافسة سياسية مع النظام الحاكم .وأسوق هنا وقائع عدة بدأت في سنة 1954 وقبل التنكيل بالقيادات السياسية عندما غض عبدالناصر الطرف عن عملية استيلاء عناصر النظام الخاص بالعنف على مقر الجماعة (قسم شرطة الدرب الأحمر حاليا ),واكتفى بحصار الحي بقوات الشرطة العسكرية .

كان سيد قطب يحضر اجتماعات مجلس قيادة الثورة حتى سنة 1956 كمستشار للتربية والتعليم وشارك في عمليات التطهير لأفضل كوادر التدريس في الجامعات والمدارس وعندما بدأ في عقد الندوات في منزله بحلوان مطالبا بالعدالة الاجتماعية وبدولة 'التطهر الإسلامي 'اعدمه عبدالناصر من دون رحمة في منتصف الستينات .

بعد اغتيال فرج فوده الذي مهدت له أحكام التكفير الصادرة من شيوخ وقيادات الجماعة ,وذهب الشيخ محمد الغزالي إلى المحكمة في سنة 1995 كي يدافع عن القتلة ,بعدها في سنة 1996 كافأته الدولة بالجائزة التقديرية في العلوم الاجتماعية !وخلال الغزو الأخير للعراق تظاهر حزب السلطة مع الأخوان في استاد القاهرة وفي مقدمهم المرشد العام الراحل مأمون الهضيبي والأمين العام للحزب الوطني صفوت الشريف ورئيس لجنة السياسات جمال مبارك ,وهتفوا بحرارة ضد الولايات المتحدة وضد عمليات 'الإصلاح من الخارج ',وتكررت التظاهرات المشتركة في الأزهر والإسكندرية وعندما تظاهر الأخوان في شكل سلمي في مدن عدة في الشهر الماضي للمطالبة بالإصلاح السياسي الديموقراطي تصدت لهم الدولة بعنف وسقطت منهم أولى ضحايا الإصلاح وهو مدرس اللغة الإنكليزية طارق غنام واعتقلت المئات من أعضائها وبينهم قيادات بارزة .وطبقا لمعاملات الجدل بينهما اعتقد بأن بعض الأيدي تحاول الزج بالجماعة إلى منحنى الإرهاب المباشر أو عبر العلاقة عن بعد مع الجماعات الراديكالية ,كما أن نظام البعث يحاول استغلال علاقتهم مع حماس الفلسطينية وهيئة علماء المسلمين في العراق وقيادات الإرهاب المسماة مجلس شورى المجاهدين لنشر الفوضى في الشرق الأوسط لعرقلة خطط الإصلاح السياسي والاقتصادي .

تنشغل أطراف متعددة بمحاولة تحديد القوة الانتخابية لجماعة الأخوان ,فضلا عن استعمال السلطة لهم كفزاعة للتخويف من الإصلاح ,وتتراوح التقديرات الغالبة لهذه النسبة بين 15 في المئة إلى 20 في المئة ,وعلى رغم اعتقادي في أن الحد الأقصى فيه بعض المبالغة ,إلا أن الجماعات المنضبطة ذات شأن في ظل فراغ سياسي ومجتمع ضعيف لمدة نصف قرن ,ولكن ثمة خطأ جوهريا وهو أن التقدير يبدأ من مشهد سياسي راكد أشبه باللوحة الجدارية وفي بيئة سياسية واجتماعية مشوهة تشكلت تحت وطأة دولة مركزية تسلطية عاتية وعقيمة وفي غياب أي قدر من الشفافية ,في حين أن التصويت الحر يبدأ حتما من مشاهد متغيرة أقرب إلى فن السينما ناتجة عن تفاعلات اجتماعية وفي بيئة تتسم بالحراك والحيوية ,خصوصا إذا سبقها إعادة تأهيل للمجتمع والدولة ,حينئذ لا بد من كتلة سياسية منعزلة تعتمد في انضباطها التنظيمي على الطاعة وضيق المجال المعرفي أن تعود إلى حجمها الصحيح ,ولكن الأهم هو أن ذلك ربما يستفز فيهم القدرة على التطور والتحول اكثر فأكثر إلي حقيقة اجتماعية تساهم في تطور المجتمع وقوته .

من الملامح الأولية للديموقراطية أنها النسق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي ينفلت على الدوام من كل تصور ثابت له ,وأنه في محاولة دائبة لاستكمال شكل نهائي لا يبلغه ابدا ,وهو يسير بالموازاة مع الزمن البشري الذي يحتوي فيه الحاضر هزيمة الماضي ,وبالتالي ينهزم الحاضر في التصور للمستقبل ,وتكتسب الديموقراطية ديناميكيتها من الجدل بين المساواة والحرية ,ومن هنا يبدأ التناقض بينها وبين ايديولوجيات الخصوصية العرقية أو المذهبية أو الدينية أو الطبقية ...الخ .وإذا أخذنا مثلا شرقيا اكثر من العرب وديموقراطيا وهو الهند أحد العمالقة الصاعدين في عالم اليوم نجد أن رئيس الدولة مسلم ,وزعيمة الأكثرية امرأة مسيحية إيطالية الأصل ,ورئيس الحكومة من السيخ أصغر الأقليات تقريبا في حين أن الأكثرية الساحقة من الهندوس .وهكذا تؤسس الديموقراطية المعاصرة أمة سياسية تتغير فيها الأكثرية بصفة دائمة وتتوزع على مصالح اجتماعية متنامية ومتغيرة بدورها ,ولذا فإن الحديث عن أكثرية ذات خصوصية ثابتة هو تناقض صريح مع روح الديموقراطية .كما أن انتزاع نص مقدس من سياقاته ووضعه في سياقات أخرى بشرية النيات والغايات والتوقيت وبغرض التدخل في عملية توزيع ناتج العمل الاجتماعي ,فإن ذلك يجرده من قوته الروحية وصفته الإيمانية ويحيله وسيلة بشرية تخضع الآخرين وتسلبهم حقوقهم ,وإذا اختلط ذلك بالميول الانقلابية والاقصائية ضمن أيديولوجيات التمييز وحرق المراحل نصبح حينئذ أمام مشروع مؤكد للظلام والطغيان .

يقودنا ما سبق إلى حديث العلمانية أحد الأسس الجوهرية للنظام الديموقراطي ,وبعيدا من التشوهات الشائعة والمقصودة ,فإن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة وعن السياسة من دون فصله عن المجتمع ,أي هي إعادة القوة الروحية والأخلاقية إلى الحق الشخصي والاجتماعي لأنها أحد أسباب قوة المجتمع مثلما يجب إعادة القوة السياسية والاقتصادية إلى الأوعية الاجتماعية عبر تفكيك دولة التسلط المركزية وإعادتها إلى وظيفتها الحقيقية أي دولة التنظيم والخدمات .

وإذا كان ما مضى هو شرح عام فإن تطبيقات العلمانية متعددة بتعدد تجاربها وتختلط في كل الأحوال بأبعاد متعددة ,ولكنها في ألمانيا ذات ملامح قانونية ,وفي بريطانيا لها جذور اجتماعية ,وفي فرنسا لها ملامح سياسية تاريخية ,وفي إندونيسيا وماليزيا تختلط بالجذور الثقافية الآسيوية ,ولكن التجربة التركية الأقرب إلى مصر لها دوافع وطنية بجوار ميول التحديث وان كانت في مصر قبل انقلاب تموز (يوليو )ضمن تجربة ليبيرالية مدنية ,وفي تركيا ضمن فاشية عسكرية .

يقودني كل ما سبق إلي القول إن جماعة الأخوان أمام مفترق طرق في ظل المرحلة الانتقالية الجسيمة التي تمر بها مصر والمنطقة كلها .ويمكنني الإقرار بأن الوزن السياسي للجماعة إذا أصبح النضال الديموقراطي هو قرارها يمكن أن يكون له دور مهم وإيجابي في تاريخ مصر والمنطقة ,ولكن ذلك يفرض الالتزام بشروط عدة اعترف بأنها نظرية إلى حد بعيد ,ولكن حاليا فقط ?في اعتقادي ?كما أنها لا تتناقض وتشكيل ضمير إسلامي اجتماعي وهي :

أولا :إعلان الإدانة الواضحة ليس لكل أعمال الإرهاب التي ارتكبتها الجماعة قبل انقلاب تموز ,وأعمال الإرهاب التي حفزت عليها ومنها اغتيال فرج فودة ,وإدانة كل أعمال الإرهاب تحت مظلة الدين .

ثانيا :إدانة الانقلابات العسكرية التي شاركت فيها الجماعة وهي انقلاب تموز سنة 1952 في مصر وانقلاب 1989 في السودان ونقض كل شرعية ترتبت على هذه الانقلابات .

ثالثا :الالتزام بدستور وقوانين مدنية تعتمد التعددية وتداول السلطة وتعتمد المواطنة أساسا وحيدا للحقوق والواجبات شاملة النساء وكل المصريين من دون استثناء والموافقة غير المشروطة على المواثيق العالمية لحقوق الإنسان .

رابعا :النأي عن إعاقة حرية البحث العلمي بكل شروطه وتطبيق علوم الانثربولوجيا والاركيولوجيا وتحكيم الوثيقة ودراسات الاجتماع التاريخي علي تاريخ المسلمين، ناهيك عن تعويض النقص الهائل في المعاجم الخاصة بالتعبيرات السياسية والاجتماعية والقانونية في تاريخ المسلمين ,وذلك لتحكيم القراءة العقلية في ذلك التاريخ ,وهذا كفيل في إعادة المسلمين إلى الجماعة البشرية ويفض الاشتباك العنصري المصطنع الذي يفترض أن غيب أفضل من غيب أو إيمان أحق من إيمان ,ووضع العلم والمعرفة في خدمة الإيمان والأخلاق والذي قادت إليه المصالح الضيقة للطغاة ومحترفي الدين وميول الجهل والاستبداد لإخفاء القضايا الأصلية وهي التقدم والسلام والحرية ,كما يعيد الإسلام قوة روحية وأخلاقية إلى رصيد الإنسانية كلها .

(الإسكندرية في 4 حزيران /يونيو 2005 )

كاتب مصري .
الموضوع :عام 
المصدر :الحياة 



--------------------------------------------------------------------------------

No comments: