Sunday, December 23, 2012

أبناء الدولة العميقة







هناك من يثير ضجيج هنا وضجيج هناك، ثم نكتشف أن هناك ما كان يجري خلف الأبواب المغلقة، وأن سيناريو معد سلفا قد تم تنفيذه وأن هناك من استخدموا لتمريره. في هذا المقال أحاول أن أشرح الألية التي تعمل بها الأمور حتى لا نخدع مجددا، أو على الأقل أن ننبه إلى احتمالات الأمر.

حين يُصعد أحد من سقف انتقاداته بشكل يتناقض مع تاريخه أنظر إلى حركته، فالبعض دس على البرادعي والبعض دس على شباب الثورة والبعض مهد للإخوان مثل مجموعة فيرمونت التي سوقت مرسي للقوى الثورية على أن الإخوان لا ينتمون للنظام السابق وليسوا امتدادا له!

بعد سقوط مبارك كانت معنويات المصريين في السماء. كان الرأي العام العالمي يترقب. أسموه الربيع العربي ظنا أن الثمار نضجت وأن الشعب الذي صنع ملحمة "التحرير" سيقطف ثمار ثورته وسيلحق أخيرا بالدول الديمقراطية المتحضرة. لكن أشواك الربيع كانت أقوى من أزهاره. وما بدره الحكم الديكتاتوري العسكري خلال 60 عاما يتسلق شجرة الربيع ويخنقها ويختطفها.

خُدع الناس مرة في المجلس العسكري ثم خدعوا في الإخوان واكتشفوا أن كل هؤلاء امتدادا لنظام واحد له عقل مركزي يحرك الأمور بغض النظر عمن يجلس في مقعد القيادة، وحتى لا تتكرر الخديعة يجب أن نميز بين الجيد والردئ فيمن يسمون بالتيارات المدنية، بين من هم أبناء الدولة العميقة الذي يحركهم هذا العقل المركزي القابع في غرف الأجهزة السرية، وبين الأزهار التي تنمو وسط هذا الركام.

كيفة صناعة النخبة في زمن يوليو:

ما أن يدخل أحد إلى دائرة السياسة أو المال أو النفوذ حتى يتم فتح ملف له في جهاز مباحث أمن الدولة، ومع مرور الوقت، توضع التقارير فوق التقارير لتكوّن بروفايل عن هذا الشخص. في البداية يكون هذا الشخص ضمن أحد القبائل، فكل شخصية عامة سواء معارضة أو موالية يكون له تلاميذ أو مجموعة خاصة به، يكون هو بمثابة الكفيل بالنسبة لهم، وعلى أساس ذلك يحصل هؤلاء البراعم على الفرص. عندما يدخل هذا الشخص دائرة الضوء تبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة التجنيد وهي عادة تبدأ في سن 32 سنة، فإما يتم تصعيده إذا أظهر قدرات خاصة، أو تقرب لأحد الشخصيات الكبيرة، بشرط استعداده لتقديم الخدمات، أما إذا لم يتعاون فيتم مضايقته بطرق مختلفة، فتحجب عنه الفرص، ويتم تحجيمه. أو "إدخاله الثلاجة" بالتعبير الأمني.

ساعد على ذلك أن الأجهزة الأمنية كانت تحكم قبضتها على مؤسسات صناعة النخبة سواء في المجال الإعلامي أو الثقافي أو الاقتصادي... ألخ. فمثلا، كانت القنوات التلفزيونية الخاصة التي انشئت تحت ضغط غزو الإعلام الفضائي الأجنبي، الذي كان في طريقه لسحب السيطرة الإعلامية من الإعلام الحكومي، كان ملكا لرجال أعمال وشخصيات تابعة للنظام، فمثلا أحمد بهجت صاحب قناة "دريم" أول قناة فضائية خاصة كان وكيلا للمخابرات العامة، وحسن راتب، صاحب قناة المحور كان عضوا بلجنة السياسات، وعضوا بالحزب الوطني. وفي لقاء تلفزيوني قبل الثورة جمع أصحاب القنوات الخاصة قال حسن راتب إنه يخدم النظام بقناته، وقال أحمد بهجت أنه حاول أكثر من مرة غلق القناة إلا أن النظام كان يضغط عليه للاستمرار.
كان هناك خطوط ساخنة بين هذه القنوات والأجهزة الأمنية للسماح بظهور من يسمح لهم النظام وحجب من يعتبرهم النظام ضمن القائمة السوداء، وهم عادة أولئك الأشخاص الجادين المصنفين في التقارير الأمنية بانهم غير متعاونين أو أعداء.

كان الهدف من رفع سقف الحرية لهذه القنوات، هو الحفاظ على الجمهور المصري تحت مظلة إعلامية تحت السيطرة، وكانت هناك وجهة نظر أخرى هي أن السماح للمعارضين بالظهور سيؤدي إلى تفريغ الغضب الشعبي. وكان هناك أجنحة داخل النظام وخاصة في المؤسسة العسكرية تدعم من وراء الستار الحركات المناهضة للتوريث. وقد اظهرت بعض الشخصيات ممن قادور حركة كفاية ولائهم للمؤسسة العسكرية ودافعوا عنها وبرروا لانتهاكاتها بعد الثورة.
هناك تصنيفات أمنية لمن يتعاملون معهم، فيتراوح تصنيف الشخصيات العامة ما بين، متعاون، غير متعاون، أو عدائي. بالإضافة إلى شخص يعمل لحساب الأمن في جهة من الجهات ويسمى "غواصة" وهو شخص ينضم إلى حزب أو جماعة أو مؤسسة، يتبنى نفس أفكارها، بل إنه يزايد عليها في الخطاب المعادي للسلطة. تكون مهمته كتابة التقارير عما يحدث داخل هذا المكان، وفي الوقت الذي يراد فيه تفجير المكان من الداخل تقوم الغواصة بزرع الخلافات أو الانشقاقات.

كانت عودة البرادعي متزامنا مع الحركة الشبابية المتصاعدة التي التفت حوله هو التحدي الأكبر للنظام. كان تحدي البرادعي يتمثل في أن هناك شخصية مصرية وصلت لمكانة مرموقة عالميا خارج إطار السيطرة، بخلاف كل الشخصيات العامة والسياسية التى نشأت داخل حظيرة النظام، وقد التف حول البرادعي جيل من الشباب يصعب أيضا السيطرة عليه. وكما يقال في التعبير الدارج أراد النظام أن "يأخذ البرادعي على حجره" فأرسل له، حين عاد لمصر، بعض المعارضين المستأنسين ممن تعاونوا مع الأجهزة الأمنية ليخترقوا الحركة الوليدة حول الرجل، ومن ثم يتمكنوا من افسادها، فرأينا كيف أن هؤلاء بدأوا واحدا تلوا الآخر في الهجوم على الرجل، ونذكر مثلا كيف أن حمدي قنديل المتحدث بإسم الجمعية الوطنية للتغيير كتب مقالا في جريدة الشروق هاجم فيه البرادعي وقال إن السيد البدوي مؤهلا لقيادة المعارضة أكثر من البرادعي!

عقب سقوط حكم مبارك رفعت مطالب في ميدان التحرير بحل جهاز أمن الدولة، حينها وقف من عملوا مخبرين لدي الجهاز في وقت من الأوقات يطالبون بحل الجهاز وينتقدون من كانوا يوما أصدقاء الخفاء. كان رد رئيس الجهاز الأسبق اللواء حسن عبد الرحمن أن سرب بعض الملفات التي تكشف هؤلاء عندما قرر التخلص من ملفات أمن الدولة، لكنه أبقى على بعض الملفات التي وصل بعضها إلى أيدي العامة وأرسل بعضها للصحف من خلال بعض الصحفيين الأمنيين. جاءت لنا في جريدة الشروق بعض هذه الملفات التي كانت تدين معارضين، كانوا يمارسون علاقة سرية في الخفاء مع الأمن. كتب أحد رموز حركة كفاية تقريرا في صديقه يبلغ أمن الدولة عن سفره لخارج البلاد، وأرسل أخر خطابات المعجبين لضمها إلى ملفه، وقيم آخر ممن كان يقود المعارضة بأنه متعاون مع الجهاز.
أصدر المجلس العسكري قرارا في ظهر هذا اليوم بمنع النشر فقد كانت الفضائح كثيرة وكان نشرها كفيلا بتعرية نخبة نظام مبارك، وحيث أن النظام لم يكن قد سقط بعد فقد كان العسكر في حاجة إلى خدمات هؤلاء في مهمة أخرى، مهمة إفساد الثورة. ولأن الجميع تقريبا كان متهما فقد تواطئت الصحف وأجهزة الإعلام و اختفت الملفات أو أخفيت.

إن الاعتماد على النخبة المخترقة التي صنعها إعلام مبارك والبعث والدوحة يجعلنا تحت رحمة أن نهزم في المعارك الكبيرة. 

No comments: